يواجه الشعب المصرى، فى الفترة الأخيرة، ظروفاً بالغة الصعوبة، على كافة الأصعدة، ويعود هذا الوضع إلى قبول الحكومة للشروط والتعليمات الصادرة عن المراكز المالية العالمية، "صندوق النقد" و"البنك" الدوليين، وغيرهما، وتنفيذها، دفعةً واحدةً، لـ"حزمة" القرارات والإجراءات المطلوبة، وعلى رأسها إطلاق سعر الصرف للجنيه المصرى، (تعويم الجنيه)، وتَخَلَّى الدولة عن دعم الطاقة (بنزين، غاز، كهرباء،...)، وإلغاء دعم السلع الأساسية، وبيع جانب مهم مما تبقّى من شركات وبنوك الدولة، ورفع سعر الخدمات الأساسية، ... إلخ، مقابل الموافقة على منحها قرضاً بقيمة 12 مليار دولار، مُقسّماً على ثلاث سنوات، ووعود غائمة بتدفق الاستثمارات الأجنبية، وهو الأمر الذى يرى فيه النظام، والطبقة الرأسمالية الحاكمة، طوق النجاة من الأزمة الاقتصادية الخانقة، وخروجاً من النفق المظلم الذى يمر به الاقتصاد المصرى منذ سنوات عديدة !.
وقد تركت هذه التطورات أكثر من أربعة أخماس المصريين يئنون من فداحة الضغوط التى أُخضعوا لها، دون تهيئةٍ مناسبةٍ، أو حمايةٍ حقيقيةٍ، أو استعدادٍ دقيقٍ، يقلل من حجم المعاناة، ويُسيطر على الآثار والتوابع السلبية، المُتَوقّعةَ، لمثل هذه الخطوات، وأبرزها الارتفاع الجنونى لأسعار السلع الأساسية، واختفاء مواد ضرورية لايمكن الاستغناء عنها كالأدوية، وتوقف حركة البيع لمستلزمات الإنتاج وقطع الغيار، وغير ذلك من مشكلات يرزح تحت عبئها المواطنون، فيما المسئولون: "لايبدو أنهم يشعرون بالأسى والألم مما اضطروا أن يفعلوه بنا، وإذ بهم يطربون لأنفسهم وأصواتهم، ويقهقهون كمن يضحك فى سرادق العزاء!"،(1)
هذه الورقة قدمت بورشة الارض ونقابة الاسماعلية باللقاء المنعقد ببيت الشباب 10/11 أغسطس 2017 ونظر لاهمية الورقة فأن المركز يعيد نشرها على صفحته .
وإذا كانت نتائج هذه الإجراءات القاصمة، التى نزلت نزول الصاعقة على الأغلبية العظمى من أبناء الشعب المصرى، قد ألقت بأعباء غير مسبوقة على كاهل عشرات الملايين من منتسبى الطبقات الفقيرة، ومحدودة الدخل، بل وّمَسّت حياة الشرائح الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى، (بدليل تظاهر طُلاّب الجامعة الأمريكية احتجاجاً على بعض نتائجها)، فإنها عصفت، أول ماعصفت، بوضع الفلاحين المصريين، الذين دفعوا ضريبة هذه الإجراءات الخطيرة مرتين: الأولى لكونهم مواطنين مصريين، حل عليهم ماحلَّ على سائر أبناء الشعب من تدهور وتراجع، والثانية باعتبارهم الطبقة الاجتماعية الضعيفة، التى تعرضت لعسفٍ مستمرٍ، ولظلمٍ تاريخىٍ متواصل، على امتداد القرون والعقود، عدا فترات استثنائية محدودة !.
الريف وسُكّانه:
ووفقاً للإحصاءات الرسمية عن تعداد السكّان، الصادرة عام 2006 ، فقد بلغ عدد قاطنى ريف مصر 41 مليوناً، (57.36% من إجمالى عدد السكّان)، يُمارس منهم الزراعة 13 مليوناً، وقد مثّلوا، عام 2008 مايوازى نحو 27% من إجمالى قوة العمل فى مصر، كما تُشير البيانات إلى أن الإنتاج الزراعى المصرى، يوفر نحو ثلثى حاجات مصر الغذائية، وساهم فى تحقيق 13% من الناتج المحلّى الإجمالى عام 2009 – 2010، رغم التناقص المستمر فى نصيب الزراعة من الاستثمارات، وتراجعها من 9.4% عام 2003، إلى 4% عام 2008.(2)
وقد توزعت حيازة الأرض الزراعية فى مصر، فى أول العقدين الأخيرين من القرن الماضى، عام 1981، إلى 90% بالمائة يملكون أقل من خمسة أفدنة، و9% بالمائة يملكون من خمسة إلى عشرين فداناً، فيما لم يزد مُلاك أكثر من عشرين فداناً عن واحد فى المائة فقط من حائزى الأرض الزراعية.
ولم تتغير هذه النسبة كثيراً بعد عشرين عاماً، مع بداية الألفيّة الجديدة، عام 2000، فقد أصبحت: 90.4%، لحائزى أقل من خمسة أفدنة، و8.5% لحائزى من خمسة إلى عشرين فداناً، و1.1% لحائزى أكثر من عشرين فداناً.(3)
إعادة الهيكلة:
وكما هو معلوم، ففى أعقاب تخلص الرئيس الأسبق "أنور السادات" من خصومه فى السلطة (مايو 1971)، ارتكن إلى التأييد الجماهيرى الواسع الذى تحصّل عليه فى أعقاب حرب 1973، لإحداث تحول اقتصادى وسياسى حاد، منذ منتصف عقد السبعينيات الماضى، بإعلان تبنيه لمجموعة السياسات الداخلية والخارجية (الجديدة)، المُغايرة لتوجهات النظام السابق: وأبرز ملامحها: الارتماء فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية، (مالكة الـ 99% من أوراق اللُعبة)، ومناهضة حركة التحرر العربى والعالمى، ومعاداة"الاتحاد السوفيتى"السابق، و"الكتلة الاشتراكية"، والصلح مع العدو الصهيونى وتوقيع "اتفاقيات كامب ديفيد"، ... إلخ.
وأسس لهذا المسار، وواكبه، تطبيق السياسات المملاة، التى أطلق عليها مسميات عديدة، منها: "إعادة الهيكلة"، و"التكيف الاقتصادى"، و"تحرير الاقتصاد"، وغيرها من الأوصاف، التى تعنى فى النهاية، كف يد الدولة عن النهوض بأىٍ من أدوارها الاجتماعية لدعم الطبقات الضعيفة فى المجتمع، أو توجيه دفة الاقتصاد ولو عن بُعد، أو التصدى لتنظيم فوضى السوق، او للحد من الإضرار بحياة الملايين الغفيرة، أو التفريط فى المصالح العليا للشعوب والأوطان، مع بيع كل ممتلكات الشعب للقطاع الخاص الأجنبى، والمصرى (الذى كان قد تشكل فى ثنايا شبكة فساد عنكبوتية واسعة، تزاوج فيها رأس المال بالسلطة السياسية، مع بروز ظاهرة "رأسمالية المحاسيب"، التى انتعشت فى ظل الاستفادة المباشرة لأبناء وأقارب المسئولين الكبار فى جهاز الحكم من مناصب وسلطات وعلاقات ذويهم!.
خطة ممنهجة لتصفية الزراعة:
وإذا كانت طبقة العمال والمستخدمين الصغار، وما شابهها، قد واجهت مصيراً بالغ الصعوبة بتنفيذ سياسات "الخصخصة" و"تسريح العمالة"،تحت شعارات مُخادعو وبرّاقة: "المعاش المُبكِّر" و"إعادة تأهيل العمالة "، و"تصحيح المسار"، ...، مع البدء فى تنفيذ سياسة واضحة تستهدف تصفية وجود ودور القطاع العام، فقد واجه القطاع الزراعى الفلاّحى المصرى خطة ممنهجة، موازيه، على امتداد العقود الأربعة الماضية، استهدفت تفكيك وإنهاء الوضعية القانونية والاعتبارية، لنتائج إلإجراءات المتخذة فى عهد الرئيس الأسبق "جمال عبد الناصر"، والمترتبة على تطبيقات قوانين وقرارات "الإصلاح الزراعى"، عام 1952 وما بعده.
المدماك الأساسى لتصفية مكتسبات الفلاحين:
وكان أبرز المحطات فى هذا السياق، "تحرير القيمة الإيجارية للأرض الزراعية"، بإصدار القانون (96) لسنة 1992، المُسمّى "قانون إصلاح العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر"، والذى قضى برفع القيمة الإيجارية من سبعة أمثال الضريبة المربوطة على الأرض الزراعية، إلى 22 مِثلاً، قبل أن يتم إطلاقها، دون سقف، بعد مرور خمس سنوات (فى 1997).
ويمكن النظر إلى هذا القانون، باعتباره المدماك الأساسى لتصفية مكتسبات الفلاحين من العهد الناصرى، (بعد أن جرت تصفية مُنَظَّمة لمكتسبات الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل)، فحقوق مثل الإيجار الثابت، واعتبار المستأجر والمُشارك حائزاً للأرض كالمالك، والتصويت فى الجمعية، والاستفادة من دعم الدولة للأسمدة والتقاوى، وحق الاقتراض من البنوك الزراعية بفائدة محدودة، وغيرها من المكاسب، تم الارتداد عنها، وهو ما أدى إلى طرد نحو904 ألف مستأجر، الأمر الذى عَنِىَ: "أنه من أصل الخمسة ملايين أسرة مصرية، تضررت 431 ألف أسرة من جراء القانون". (4)
ولكن الأفدح، هو أن تطبيق هذا القانون، فد أدى إلى "زيادة تفتيت الرقعة الزراعية، حيث أن نسبة الحائزين أقل من فدان كانت 36 بالمائة عام 1990، من جملة الحائزين، وأصبحت 43 بالمائة عام 2000 . (5)
الحصاد المُر:
والآن، وبعد مرور مايقرب من ربع قرن على إصدار القانون رقم (96) لسنة 1992، ماهى ملامح حياة الفلاحين المصريين، وماهى النتيجة التى آلت إليها أوضاعهم بعد عقدين من بدء سريان هذا القانون، (1997)، وفى ظل انتهاج نظام الحكم لسياسات "تحرير الزراعة المصرية"؟!.
يوضح أحد أئمة الكفاح الفلاحى، المناضل الراحل "عريان نصيف"، مفهوم عملية "التحرير" هذه، فى خمسة ملامح أساسية (6):
(1) تفكيك المؤسسات الموحدة المحلية فى الإطار الزراعى والفلاحى:
ومثّلها فى مصر "الاتحاد التعاونى الزراعى" المركزى، الذى كان يضم 3 مليون فلاح من خلال حوالى 5000 جمعية، استجابةً لتوصيات "منظمة التنمية الأمريكية" وبرنامج الـ "أيد"، وتم حلّه بموجب القرار رقم 824 لعام 1976.
(2) اتباع سياسة "التصدير من أجل الاستيراد":
وهو ما يعنى زيادة المساحة المنزرعة بالمحاصيل التصديرية غير الاستراتيجية، على حساب زراعة المحاصيل الرئيسية الضرورية لتغطية الاحتياجات الغذائية للشعب، أو اللازمة للصناعة الوطنية، وبموجب هذا الأمر فقد فُرض على مصر الانصياع لتعليمات "هيئة التنمية الأمريكية" التى اعتبرت أن: "التوسع فى مساحة زراعة القمح يُعدُّ إخلالاً بسياسات الإصلاح الاقتصادى، وانحرافاً عن نتيجة البحوث المشتركة"، وكذلك لتوصيات "البنك الدولى"، فى أكتوبر 1994، التى أمرت بتخفيض المساحات المنزرعة بقصب السكر !".
(3) رفع يد الدولة عن العملية الزراعية، عن طريق:
- الإلغاء الكامل لدعم مستلزمات الإنتاج من بذور وتقاوى وأسمدة، وترك أسعارها تتحدد وفق آليات السوق وتحكُّم التُجّار والقطاع الخاص.
- إلغاء الدور التعاونى فى المجال الزراعى، والاعتماد على "بنك التنمية والائتمان" وفروعه فى القرى، و"تحرير" سعر الفائدة على القروض المالية للفلاحين، ...
- إلغاء عملية تخطيط الإنتاج الزراعى، وتحديد الدولة للتركيب المحصولى السنوى وفقاً للاحتياجات والضرورات المحلية .
- إلغاء دور الدولة فى عملية تسويق المحاصيل الزراعية، وترك التعامل فيها، داخلياً وخارجياً، للقوى الاحتكارية التى هيمنت عليها بالكامل !.
(4) آليات السوق تحكم ملكية وحيازة الأرض:
وهو ماتم على نحو ما أشرنا إليه من خلال إصدار وتطبيق القانون (96) لسنة 1992، كما تم إلغاء القانون رقم (15) لسنة 1963، والقاضى بحماية الأرض المصرية من هيمنة الأجانب عليها، وإصدار القانون رقم (6) لسنة 1995، الذى يُبيح للأجانب حق ملكية أى مساحات من أراضى مصر الصحراوية بالمجّان أو بإيجار رمزى!.
(5) الاعتماد على معونات "المانحين" والالتزام بشروطهم:
وفقاً لتصريح"جاك هوفر"، أحد واضعى السياسة الزراعية والغذائية الخارجية لأمريكا، فالغذاء لا يُوزع على الدول الأخرى على أساس مدى الاحتياج، وإنما "على أساس الاعتبارات التى تُمليها السياسة الخارجية الأمريكية".
فسياسات الدعم الغذائى أداة رئيسية من أدوات الهيمنة، وفرض الإذعان وتنفيذ التوجيهات التى تخدم مصالح أمريكا فى المقام الأول، ولم تقدم الولايات المتحدة لمصر، فى هذا المجال، على امتداد ربع قرن (1975 – 2000)، إلا نحو ثلاثة مليارات دولار، أى بمتوسط لايزيد عن 120 مليون دولار كل عام، وهو مبلغ زهيد لا يستأهل كل ماقُدِّمَ من تنازلات، ويتم استرداد أغلبه تنفيذاً لشرط الالتزام بشراء كل الآلات والسلع اللازمة للمشروعات الممولة من أمريكا، مهما ارتفعت أسعارها، وإنفاق جانباً ملحوظاً منها فى المرتبات الخيالية للـ "خبراء" الأمريكيين !.
والأخطر تمثّل فى خضوع حسابات "بنك التنمية والائتمان الزراعى المصرى"، لرقابة "الهيئة الأمريكية للتنمية"، وحصول الولايات المتحدة على "أكبر قدر من البيانات عن الهيكل الزراعى المصرى"، بموجب ماتم بينها وبين الحكةمة المصرية من اتفاقات!.
التفريط فى ركائز الزراعة المصرية:
وقد ترتب على انصياع الحكومات والنظم المصرية المتتالية للشروط الأمريكية، والتطبيق العشوائي لسياسات "تحرير" الزراعة المصرية، هدم ركائز التميّز المصرى فى هذا المجال، مثل زراعة القطن طويل التيلة الذى حظى بسمعة عالمية، وتسبّب فى التفريط فى حماية السلالات الزراعية المصرية، وخبرات الزراعة العضوية، والزراعة المعتمدة على البذور المحلية والأسمدة البلدية، ومقامة الآفات بأسليب غير كيماوية، الأمر الذى أفضى إلى تلويث التربة والحاصلات الزراعية، ونشر أمراض الكلى والسرطان بين مستخدميها، فضلاً عن تراجع إنتاجية ونوعية الثروة الحيوانية والداجنة، وفتح أبواب استيرادهما، بدلاً من تطوير الإنتاج المحلى.
وساعد هذا المناخ، المُعبأ باللامبالاة والرخاوة والبيروقراطية والفساد، على توفير الفرصة للانقضاض على الأرض الزراعية المصرية الخصبة، فزحفت المبانى السكنية العشوائية، والمعامل، والمنشآت الصناعية، لكى تلتهم مئات الآلاف الأفدنة، من أجود وأخصب الأراضى المصرية، دون إحساس بفداحة الخسارة، وبالذات فيما يخص الأجيال الجديدة.(7)
أزمة المياه:
وضاعف من مشكلات الزراعة التناقص التدريجى فى نصيب الفرد المصرى من المياه.
فحصة مصر من مياه النيل، محدودة، (55 مليار متر مكعب)، كانت بهذه القيمة حينما كان عدد سكّان مصر بضعة ملايين معدودة، وظلت على هذا النحو والعدد يزحف حثيثاً باتجاه المائة مليون مواطن !.
وتشير الإحصاءات إلى أن نصيب المصرى من المياه كان 2200 متراً مكعباً عام 1800، انخفض إلى 1500 متراً مكعباً عام 1980، ثم انخفض إلى 1035متراً مكعباً عام 1993، وإلى 900 متراً مكعباً عام 1997. (8).
ولن يزيد نصيب الفرد عام 2017، الذى تجاوز فيه عدد سكّان مصر رقم الـ 92 مليون نسمة، عن ستمائة متراً مكعباً، آخذةً فى التناقص، ولن يُعَوِضَ الحاجة المتزايدة للمياه، إلا الترشيد الشديد فى استهلاك المتوفر منها، ووضع حد لسفه الاستخدام الترفى فى القيللات، والمنتجعات السياحية، وملاعب الجولف، والبحيرات الصناعية، وحمامات السباحة، وما شابه، واستكشاف مصادر جديدة، للمياه، وتطوير أنظمة الرى التقليدية، التى تستهلك كميات ضخمة من المياه دون مقابل مكافىء، إلى طرق الرى الحديثة، والحفاظ على نقاء المياه وحمايتها من كل أشكال التلوث.
مصر من أكبر مستوردى الغذاء:
وكان من أسوأ النتائج، وأشد آثار هذه السياسات الخرقاء ضرراً: تحول مصر إلى أحد أكبر المستوردين فى العالم للسلع الغذائية الحيوية: القمح، والزيوت، واللحوم، والسكر، وغيرها مما لا يُستغنى عنه من الضرورات الأساسية للمجتمع.
وهو ما لخّصه العالم الراحل "د. مصطفى الجبيلى": لم تؤد هذه السياسات "إلى تضييق الفجوة الغذائية، بل على العكس فقد أدت إلى اتساعها كثيرا". (9)
الفساد يضرب الزراعة فى مصر:
ويضاف إلى ماتقدم، ماهو معروف من ترهل وفساد ينخر فى العديد من القطاعات الرسمية المعنية بقضية الأرض فى مصر، وقد كان آخر ما تَسَرَّب فى هذا الشأن، هو ما كشفته "الإدارة العامة لمباحث الأموال العامة" بشأن التحقيق فى تقاضى عدد من المهندسين الزراعيين لرشوة بلغت مليارى جنيه، لتسهيل استيلاء 37 شخصا على 85 ألف فدان، فى زمام محافظات البحيرة الإسماعيلية والجيزة !.(10)
المُحصّلة الختامية:
أدى التدخل النشط، من خلال آليات السيطرة الاستعمارية الحديثة، وأدواتها الاقتصادية بالأساس، وفى ظل تراجع الوعى الوطنى، والتفريط المستمر فى عناصر السيادة الوطنية، وأهمها القدرة على إنتاج الحاجات الأساسية للبلاد، وفى مُقدمتها الغذاء، وامتلاك القرار فى السيادة على الأرض والمياه، إلى تدهور مُريع فى أحوال الزراعة المصرية والفلاحين المصريين، الذين امتلكوا على مدار الزمن سر الزراعة ومفاتيح صناعة الحضارة الإنسانية، منذ فجر التاريخ وحتى الآن.
وقد رصد تقرير لـ"الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء" ملامح تدهور واقع الطبقات المحرومة فى المجتمع، وتفاقم معاناة القطاع الفلاحى والريفى المصرى، على النحو التالى:
- تزايدت نسبة الفقر فى مصر من 25.2% عام 2010 – 2011، إلى 27.8% عام 2015.
- ارتفعت نسبة "الفقر المدقع" إلى 5.3% من سكّان مصر خلال عام 2015.
- 56.7% من سكّان ريف الوجه القبلى لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من المواد الغذائية وغير الغذائية، مقابل 19.7% بريف الوجه البحرى. وقد شهد حضر وريف الوجهين: القبلى والبحرى ارتفاعاً فى مستويات الفقر بين أعوام 2012 – 2013 و2015.(11)
- 81.8% من المصريين غير مشتركين، ولا يتمتعون بغطاء التأمينات الاجتماعية، "ومن ثم لا أمل فى معاش أو دخل" . (12)
"تحرير" سعر الجنيه، وانعكاساته السلبية:
ولم يقف الوضع عند الحد الذى أشرنا إليه فى السطور السابقة، وإنما ازداد الأمر تردياً مع التخفيض الأخير فى قيمة الجنيه المصرى بنحو نصف قيمته دُفعة واحدة، وهو مايعنى ارتفاعاً موازياً لأسعار كل مدخلات عملية الإنتاج الزراعى، دون استثناء: الآلات والمعدات والتقاوى والأسمدة والكيماويات الزراعية، وهو ما أشرنا إليه عاليه، وأقر به وزير الصناعة والتجارة، المهندس طارق قابيل، باعترافه أن المستلزمات الأجنبية للإنتاج المصرى، تتراوح مابين 30 و50 بالمائة، وشملتها جميعاً عملية رفع الأسعار الجنونية الأخيرة!.
كذلك فإن الاستمرار فى تخفيض الدعم الرسمى للطاقة الكهربية ومشتقات البترول على نحو ماحدث مؤخراً، مواكباً لـ"تعويم الجنيه"، والإعلان عن النيّة المبيتة لرفع جديد لأسعار الكهرباء والوقود، على لسان "عمرو الجارحى"، وزير التجارة والمالية (13)، يُشير إلى توقع المزيد من المشكلات والتعثر، كما أن رفع سعر الفائدة البنكية إلى آفاق غير مسبوقة (16 – 20%)، يعنى تحميل المقترضين البسطاء أعباءً إضافية باهظة، ويؤكد استمرار معاناة قطاع الزراعة وطبقة الفلاحين المصريين، الذين يخوضون المعركة دون نصير فاعل، أو آلية حماية ذات كفاءة.
الخاتمة:
تعكس الرؤية التى تضمنتها السطور الماضية، الشعور بحجم الإجحاف، التاريخى والراهن، الذى وقع، وسيقع، على ملايين الفلاحين المصريين، الذين يلقون، وسيلقون، رغم عِظم عطائهم وتضحياتهم، المزيد من العسف والإجحاف.
نقطة الضعف الرئيسية التى تُشجِّع الطبقات والفئات المُستَغِلة على الاستهانة بأوضاع الفلاحين، هى انفراط عقدهم، وعجزهم (أى الفلاحين)، عن تشكيل هيئات قوية (أحزاب. نقابات. اتحادات. تعاونيات....)، تُجَسِّدُ حضورهم النسبى فى المجتمع، وتلم شملهم، وتدافع عن حقوقهم، وترعى مصالحهم، وتزود عن آمالهم المشروعة فى الحياة الكريمة .
ولهذا الحديث الضرورى مناسبة اخرى.
الهوامش:
(1) إبراهيم عيسى، المسئولون الذين يتنططون، جريدة "المقال"، 6 نوفمبر 2016.
(2) صقر النور، الفلاحون والثورة فى مصر: فاعلون منسيون، مجلة "المستقبل العربى"، السنة 37، العدد 427، أيلول/ سبتمبر 2014، ص: 29، و"تقرير التنمية البشرية": التغلب على الحواجز: قابلية التنقُّل البشرى والتنمية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، نيويورك، 2009.
(3) المصدر نفسه.
(4) كرم صابر، ملامح تغيرات جديدة فى ريف مصر، المصدر السابق، ص:31.
(5) محمد أحمد على حسانين، الهجرة الداخلية فى مصر، دراسة فى الجغرافية البشرية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، مذكورة فى المصدر السابق، ص: 32.
(6) عريان نصيف، السياسات الزراعية مابعد التكيف الهيكلى، فصل فى كتاب "أحوال الزراعة والفلاحين المصريين فى ظل التكيف الهيكلى: (دراسة حالة مصر)، تحرير د. حسنين كشك، مركز البحوث العربية والأفريقية – القاهرة، منتدى العالم الثالث – داكار، مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، القاهرة، 2007، ص ص: 15 – 29.
(7) لمزيد من التفاصيل: "الحزب الاشتراكى المصرى"، و"لجنة التضامن الفلاحى"، موجز لأشكال المقاومة والمهمات الفلاحية فى مصر، إعداد بشير صقر، (دراسة غير منشورة)، القاهرة، نوفمبر 2011.
(8) أحمد بهاء الدين شعبان، صراع الطبقات فى مصر المعاصرة: مقدمات ثورة 25 يناير 3011، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012، ص:12.
(9) عريان نصيف، مصدر سابق، ص: 21.
(10) جريدة "البورصة"، 30 نوفمبر 2016.
(11) جريدة "الدستور"، 17 أكتوبر 2016.
(12) جريدة "الأهرام"، 5 نوفمبر 2016.
(13) جريدة "المصرى اليوم"، 29 نوفمبر 2016.
بطلاب الغربية وعمال المحلة وشباب الاسكندرية.